تعتبر قضية البعث من أخطر القضايا التي ناقشها الإسلام وأكد عليها القرآن الكريم أيما تأكيد، وفي كثير من آيات القرآن الكريم، أزال رب العزة "جل وعلا" الشبهات وضرب للناس الأمثال حتى يبين لهم ماهية عملية البعث ومنطقيتها وحتمية حدوثها، فيقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج﴾ (الحج 5)، ويقول عز وجل: ﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير﴾ (التغابن 7)، ويقول سبحانه ﴿ وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا﴾ (الجن 7).
ويؤكد الله عز وجل في آيات أخرى أن لا شك مطلقاً في البعث فيقول: ﴿ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور﴾ (الحج 7)، ﴿ وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون﴾ (الروم 56)، ﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد﴾ (المجادلة 6)، ﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون﴾ (المجادلة 16).
لقد شغلت قضية البعث ليس فقط عامة الناس المؤمن منهم والكافر بل شغلت أيضاً عقول وفكر أنبياء الله عز وجل ورسله، فيذكر القرآن العظيم قصة نبي الله العزير فيقول: ﴿ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ (البقرة 259)، ونرى ذلك أيضا في قصة أبي الأنبياء إبراهيم حين قال: ﴿وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم﴾ (البقرة 260).
كيف سيحدث البعث
البعث يمثل - في حد ذاته - صدمةً وتحدياً كبيراً لكلاً من الكافرين والمتشككين قديماً وحديثاً، فقد أثارت كيفية حدوث البعث – كما قلنا- فضول الجميع، وحتى يقرب الله عز وجل للناس الكيفية التي سيتم بها البعث بعد الموت ضرب أمثالاً متعددة مما نراه بأعيننا ونلمسه بأيدينا ونشتم رائحته بأنوفنا، فيقول جل وعلا في غير آية من القرآن الكريم: ﴿ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير﴾ سورة الروم 50، ﴿ ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات لها طلع نضيد، رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج﴾ ق 9-11، ﴿ والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون﴾ الزخرف 11(، ﴿ والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور﴾ فاطر 9، ﴿يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون﴾ سورة الروم 19، ﴿وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون﴾ الأعراف 57، ﴿ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير﴾ فصلت 39.
من الواضح أن الآيات الكريمات تتحدث في مجملها عن قضية البعث، وليس الحديث هنا كما ترون حديث أفعل ولا تفعل بل إنه حديث فكر وعقل وبرهان، فالآيات تتحدث عن إحياء الأرض بعد موتها وما كان لذلك أن يحدث إلا بوجود الماء.
ولو أردنا أن نستخلص المعلومات التي تحتويها الآيات الكريمات لوجدنا أن الله سبحانه وتعالى بدأ القصة بالسحاب الذي يتراكم ويساق بأمر الله عز وجل فينزل المطر على الأرض اليابسة فتنمو فيها كل أنواع الثمار فتخضر بعد يبس وتنضر بعد شحوب وتؤتي أكلها بعد جدب، وفى جميع الآيات يعقب الله تعالى بأن الإنسان سيعاد أحياءه يوم البعث بنفس الطريقة حيث كرر جل وعلا القول: ﴿ كذلك الخروج﴾، ﴿ إن الذي أحياها لمحيي الموتى﴾، ﴿ كذلك يحي الله الموتى﴾ ، ﴿ كذلك تخرجون﴾، ﴿ كذلك النشور﴾
الإنسان خلق من تراب
إننا نرى في آيات الله السابق ذكرها دعوة من الله عز وجل لنا نحن المسلمون ولغيرنا من أبناء الأديان والنحل الأخرى أن نعقد المقارنات، ونجري الحوارات والمناقشات حول كيفية إنبات النبات في الأرض الجدباء المتشققة الخاشعة المتصدعة، وذلك بعد نزول المطر عليها، والنتيجة الحتمية التي سنصل إليها جميعاً هي أن الأرض ستخضر وتؤتي أكلها وتنبت فيها الحدائق الغناء ذات البهجة.
نعم إذن اتفقنا، وعليه فان خروجنا من مراقدنا يوم القيامة لن يكون أبعد ولا أصعب من ذلك، بل إنه لكذلك وبهذه البساطة واليسر. ولنستجلي معاً الحقيقة دعونا نتناول قضية البعث وإحياء الموتى من خلال عقد مجموعة من المقارنات والمقابلات، لعل هذا يرشدنا بشكل أبسط وأسرع لكيفية حدوثه، وإمكانية حدوثه أيضاً.
وهنا نطرح السؤال التالي، من أي شيء خلقنا الله؟ وما هو الوسط أو البيئة التي كانت فيها النشأة الأولي، للإنسان الأول؟، والإجابة قد لا يختلف عليها اثنان، نحن نبتنا من الأرض وخلقنا الله من تراب، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم وهو أصدق القائلين: ﴿ وهو الذي أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا﴾ ويقول تبارك وتعالي ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ﴾. إذن الوسط الذي نبتنا فيه هو الأرض والمادة التي خلقنا الله منها هي التراب.
وبالتحليل العلمي الدقيق لمكونات الأرض أو كما ذكر في الآية الكريمة "التراب" نجد أنه يحتوي علي مكونات معدنية مثل، الهيدروجين، النتروجين، الأوكسجين، الكربون، الكالسيوم، الصوديوم، الكلور، الماغنسيوم، اليود، الحديد، الفوسفور، النحاس، البوتاسيوم، السليكون، والكبريت.
وليس عجيباً أبداً أن يكتشف علماء الكيمياء التحليلية أن مكونات جسم الإنسان المعدنية تكاد تتطابق مائة بالمائة مع المكونات المعدنية للتراب. وليس مستغرباً أيضاً أن نجد تشابهاً بين المكون الصلب والسائل في كلاً من الأرض والإنسان، فنسبة اليابسة إلى الماء على كوكب الأرض هي29% يابس: 71% ماء، ويا سبحان الله فإن هذه النسبة تكاد تتطابق مع نسبة المواد السائلة إلى نسبة المواد الصلبة في جسم الإنسان البالغ، وكأن الإنسان (أي إنسان) ما هو إلا قطعة ممثلة لأصله الأرض، وكما أن الأرض لا تنبت زرعاًً ولا كلأً إلا في وجود الماء، فكذلك أبن الأرض - الإنسان - قد يعيش بدون طعام لمدة أقصاها أسبوعين ولكنه لا يمكن أبدا أن يعيش لأيام تعد على أصابع اليد الواحدة بدون الماء (إكسير الحياة).
أوجه التشابه بين الإنسان والنبات
الإنسان والنبات شقيقان فكلاهما نبت من الأرض، ومن الناحية التصنيفية الحديثة والتي تعتمد على تكنولوجيات الحامض النووي الريبوسومي فإن كلاً من الإنسان والنبات يقعان معاً تحت مجموعة الكائنات الحية حقيقية النواة (Eukaryota)، كما أن كلاً من الإنسان والنبات له دورة حياة - أي عمر - أقرها القرآن الكريم للإنسان في قوله عز وجل ﴿ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج﴾ وقد ذكرها الله عز وجل للنبات أيضاً فقال في سورة الزمر﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب﴾ (الزمر 21).
كما أن احتياجات الإنسان الغذائية لا تختلف كثيراً عن احتياجات النبات، فربما تختلف من ناحية الشكل ولكنها تتشابه وتتطابق من ناحية المضمون، بمعني أن المكونات الأساسية لغذاء الإنسان والنبات واحدة لا تبتعد أبداً عن العناصر الغذائية التي ذكرناها في مكونات التراب المعدنية، كما يتشابه الهدف من عملية التغذية أيضاً، فالغرض الأساسي للغذاء هو الحصول علي الطاقة اللازمة ليمارس بها الكائن الحي نشاطاته الحيوية المعتادة مثل الغذاء والهضم والإخراج وغيرها.
إحياء الأرض الميتة
لنتفهم حالة الأرض الميتة، ولماذا أطلق الله عز وجل عليها هذا الوصف؟، نقول أنه في حالة غياب الماء، يشعر الكائن الحي (نبات، حيوانات، أو ميكروبات وغيرها) بتغير في البيئة الخارجية المحيطة به وقرب نفاد الغذاء وأن هناك خطراً حقيقاً يحدق بحياته، وعليه فإن هذه الكائنات الحية على الفور تتخذ من الاحتياطات والتدابير ما يؤمن لها حياتها ويحفظ لها استمرارية وجودها ومستقبلها وتبدأ بالترتيب لمواجهة هذه الظروف القاسية كأي إنسان عاقل راشد.
وهنا يقول الدكتور نظمي خليل أبو العطا في كتابه "النبات في القرآن الكريم": إنك ترى هذه الكائنات وقد دخلت في حالة سكون تام، وانعدام حركة، ويتقوقع معظمها على نفسه ويدخل في حالة تجرثم وذلك بتكوين حوافظ جرثومية تعمل كالدرع الواقي للكائن الحي من الظروف الخارجية القاسية وأهمها غياب الماء، لدرجة أن العلماء وجدوا بعض هذه التراكيب في غلايات حامض الكبريتيك المغلي، وداخل صخور الجرانيت التي كانت في يوم من الأيام ملتهبة.
وتتحوصل بويضات بعض الكائنات الحية الأولية الأخرى بأغلفة حامية لها من الظروف الخارجية القاسية وتصبح في حالة كمون وسكون تام، كما أن البصلات والبصيلات والكورمات والريزومات والدرنات، والبذور والحبوب تكون في أقل صورة من النشاط الحيوي لها حفاظاً على حياتها وبقاءً لأجيالها القادمة.
هذه ببساطة حالة الأرض الميتة،الخاشعة، المتصدعة، ولكن وبمجرد أن يأذن الله الكريم بنزول المطر على الأرض تتغير طاقة الوضع وطاقة الحركة لكل من المطر والأرض فتهتز الأرض وتتحرك لانتقال الطاقة إليها من الماء، فيزداد تأين مكونات التربة غير العضوية في وجود الماء ويزداد حجمها، وتتشرب المكونات العضوية غير القابلة للتأين الماء، وتنتفخ وتتباعد أجزائها عن بعضها البعض، ويزداد حجمها نتيجة لعمليات التشرب.
النتيجة النهائية للعمليات السابقة، اهتزاز التربة وتحركها مع غياب التشقق عنها، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير﴾ (فصلت 39)، يتزامن مع هذا الاهتزاز خروج الكائنات الحية الدقيقة من حالة سكونها، وتنشط البصلات والبصيلات والريزومات والكورمات وتفقس البيضات وتنشط الديدان والحشرات وتنمو الجذور والسيقان ويزداد معدل امتصاص التربة وتهتز جزيئاتها وتتحرك.
ويقول البروفسور نظمي خليل في كتابه "النبات في القرآن الكريم": عند دخول الماء إلى بذور أو حبات النباتات المختلفة تحدث فيها تغيرات فيزيقية حيث تنتفخ الحبة وتزداد في الحجم بفعل قوى التشرب، فيتمزق الغلاف، وفي نفس الوقت تحدث عمليات كيميائية كبيرة حيث يبدأ الجنين في فرز كميات كبيرة من الأنزيمات المحللة للمواد الغذائية المدخرة في البذور والحبوب فتحولها إلى مواد بسيطة التركيب صغيرة الجزيئات تنفذ خلال أغشية وجدر الخلايا حيث يستغلها الجنين ويتغذى عليها.
بعد ذلك تبدأ عمليات حيوية رائعة ومثيرة انقسام خلوي عجيب ومغازل تنسج وجدر تبنى، وحرارة تنبعث وحياة تدب وهرمونات تتكون وفيتامينات تعمل وأعضاء تتكشف وجذير يتجه إلى الأرض وسويقة تتجه إلى أعلى في حماية عجيبة وتقدير دقيق وتتكون الأوراق والبراعم والأزهار والثمار وغيرها من بلايين العمليات الحيوية المعجزة.
كيف ينبت الإنسان يوم القيامة
في صحيح البخاري (حديث رقم 4554) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون قال أربعون يوما قال أبيت قال أربعون شهرا قال أبيت قال أربعون سنة قال أبيت قال ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة. وفى مسند الإمام احمد من حديث طويل (حديث رقم 6268) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم يرسل الله أو ينزل الله قطراً كأنه الطل أو الظل نعمان الشاك (فسره العلماء بمني كمني الرجال) فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام.
ولتبيان الإعجاز العلمي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعونا نقرؤه قراءةً علمية، فالحديث يتحدث عن الإنبات، واختار من النباتات "البقل" كأبرز مثل دنيوي يشابه إنباته وإنبات الإنسان يوم القيامة، كما وصف الحديث صفات الماء اللازم لعملية إنبات الإنسان يوم البعث، ثم تحدث الحديث الشريف عن أن البذرة الإنسانية التي سننبت منها جميعاً، هي ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم "بعجب الذنب".
أولا: بذور نبات البقل
البقل من النوى، حيث يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى........... ﴾. هذه الآية الكريمة فرقت بين الحب والنوى، والمعلوم علمياً أن الحب غير النوى، فالحبة ثمرة كاملة، مثل حبوب، الذرة والقمح والشعير أما النوى فهو من البذور وهي جزء من الثمرة، ومن أمثلتها النباتات البقولية مثل الفول البلدي والفاصوليا، وفول الصويا وغيرها، كذلك نوى البلح والنبق والخوخ والعنب، وقد أشار الله عز وجل إلى إنبات النخيل وأنه مشابه لإنبات الإنسان يوم القيامة في قوله عز وجل: ﴿ ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات لها طلع نضيد، رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج﴾ (ق 9-11).
وقد اتفق علماء النبات أن بذرة نبات البقل هي كائن جنيني حي ولكنه في حالة من الكمون أو السكون وليس الموت فجميع العمليات الحيوية تتم فيه ولكن بمعدلات بطيئة جدا بحيث يظل الجنين محتفظاً بحياته لأطول فترة زمنية ممكنة، ويتكون هذا الجنين من نفس الأعضاء الخضرية الأساسية التي يتكون منها النبات الكبير، وحتى ينبت هذا الجنين فلابد أن يكون حياً، فالجنين الميت لا ينبت أبداً.
ويحدث الإنبات بتشرب الحبة أو البذرة للماء، فتنتفخ وتتمزق أغلفتها نتيجة للضغط عليها، ثم يظهر الجذير خارج الحبة أو البذرة إلى التربة والماء، ثم تظهر الرويشة أيضاً خارج الحبة أو البذرة وتتجه إلى أعلى غالباً وتعطى الساق الذي يحمل الأوراق والأزهار والثمار والأشواك والمعاليق وباقي الزوائد.
الشكل يوضح نمور نبات الفول الذي هو من البقوليات
شيء آخر يمكن لأي أحد ملاحظته في إنبات نبات البقل وما شابهه من النباتات الأخرى أن بذوره عند إنفلاقها وخروج الساق الجنيني والجذير منها تخترق سطح التربة وتخرج مع الساق لأعلي لعدة سنتيمترات قليله فوق سطح التربة، أفلا يلفت ذلك نظرنا، وأن اختيار الرسول الكريم لهذا النبات ليشبه به إنبات الإنسان يوم القيامة كان إختياراً دقيقاً، بحيث أن الجميع، كل الناس، يمكن أن يري النبات وهو ينبت من الأرض إنباتاً، ويطلق العلماء على هذه الظاهرة، ظاهرة الإنبات الهوائي، بينما النباتات الأخرى وخصوصاً ذات الفلقة الواحدة مثل القمح والشعير وما شابها من النباتات فإنباتها أرضي أي تحت الأرض فلا تظهر منها بذور ولا غيرها وكل ما نراه منها هو الساق الخضراء.
ثانياً : بذرة الإنسان
لكي يكون هناك إنبات لابد أن يكون هناك بذرة، ولكي تنبت هذه البذرة لا بد أن يكون بها جنين، ولكي ينبت هذا الجنين لا بد أن يكون حياً، وكما ذكرنا سابقاً، فلو أن هناك بذرة تحتوي على جنين ميت فإنها لا ولن تنبت أبداً. والفيصل في أن يكون الجنين حياً أن يحتوي علي كروموسوماته الوراثية حية وسليمة، فهذه الكروموسومات تمثل كتاب الحياة، والمكتبة الرقمية التي تحتوي علي كل أسرار وخصائص هذا الكائن الحي.
وقد أشار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإنسان سينبت يوم البعث من أحد عظامه، وخصوصاً تلك العظمة التي منها تم خلقه وتركيبه ومنها ينبت يوم القيامة، هذه العظمة هي - كما أشار الحديث - "عجب الذنب". والسؤال الآن: أين مكان هذه العظمة في جسم الإنسان؟. وللإجابة عن ذلك ننتقل نصاً إلى قول الدكتور "مصطفى عبد المنعم" أستاذ علم الأجنة والتشريح - كلية الطب - جامعة طيبة بالمدينة المنورة حيث يقول في مقال له بموسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تحت عنوان "عجب الذنب اكتشافات جديدة": لقد بني علماء المسلمين في النصف الثاني من القرن العشرين فهمهم للإعجاز في حديث عجب الذنب على قاعدتين علميتين أساسيتين، أولا: أن العصعص هو ما تبقي من جزء أولى من الجنين يعرف باسم (the Primitive streak) وهو جزء محوري عرف بأنه يظهر في أوائل الأسبوع الثالث وتمر منه خلايا من طبقة الإكتوديرم لتكون طبقة الميزوديرم ثم يتقلص ( the Primitive streak) وما يتبقي منه إلى أجزاء ضئيلة تكون ممثلة في الإنسان في فقرات العصعص، ثانياً: أن الدليل على أصل قدرة هذا الجزء على تكوين مختلف الأنسجة بالجسم هو أنه في حالة حدوث ورم في هذا الجزء لدى الطفل المولود (teratoma) فإن هذا الورم يحوى نماذج من جميع أنسجة الجسم المختلفة (شعر- أسنان- غدد- ......).
وأشار الدكتور مصطفى عبد المنعم أنه عند الدراسة في عموم المراجع العالمية قد يصاب الباحث بالإحباط حين يرى إجماع هذه المراجع أن (Primitive streak) تختفي بنهاية الأسبوع الثالث أو منتصف الأسبوع الرابع لتطور الجنين مما يعنى نسف كل التصور الذي سبق. ولكن الحقيقة أن (Primitive streak) قبل اختفاءها تترك إبناً لها يعرف باسم (Caudal eminence) في منطقة (The Mesoderm ) ثم تختفي Primitive streak نفسها كلياً وبقاء شيء من (Primitive streak) في منطقة الإكتوديرم من الواضح أنه هو الذي يؤدى إلى تكون الورم الخبيث المعروف باسم (teratoma) والذي هو أشهر ورم خبيث في الأطفال على الإطلاق.
وعلى عكس ما كان متعارف عليه سابقاً فإن هذا الجسم (Caudal eminence) هو المسئول عن تكوين ليس فقط عجب الذنب ولكن أيضاً الأجزاء الأساسية للعمود الفقري والحبل ألشوكي والأغشية المحيطة به تحت مستوى L2. وهذا تأكيد على صدق قوله صلى الله عليه وسلم (منه خلق).
وفي أكثر من تجربه أجراها العالم الألماني "هانس سبيمان"(Hans Spemann) وجد أن هناك ما يسمي بالشريط الأولي هو المسئول عن خلق جميع أجهزة الجسم في الجنين البشري، ولإثبات هذه النظرية قام بنقل هذا الشريط الأولي لعدد من الحيوانات بجوار أجنتها الأصلية ووجد أن هذا الشريط الأولي نما كجنين ثانوي بجوار الجنين الأصلي.
وفي تجربه أخري قام العالم "هانس" وتلاميذه بطحن هذا الشريط الأولي بقوة وقاموا بعد ذلك بزراعته في أجنة الحيوانات كما أسلفنا فوجد أن هذا الشريط الأولي نما مرة آخري تماما مثل المرة الأولي، مما أكد له أن هذا الشريط الأولي لا يبلي بالطحن، وزيادة في الإثبات قام هذا العالم ورفاقه بغليه وزرعه مرة أخرى في جنين ثالث فنما مكونا محورا جنينيا جديدا مما أكد له أن خلايا هذا الشريط الأولي لا تتأثر بالغليان.
وقد منح سبيمان جائزة نوبل سنه 1935 على اكتشافه لدور الشريط الأولي في تخليق جميع أجهزه الجسم، وفى أن خلاياه لا تبلى بالطحن أو الغليان .وفى شهر رمضان 1424 هـ قام " الدكتور عثمان جيلان "بتجربة مماثله في اليمن أحرق فيها خمسا من عصاعص الأغنام باستخدام مسدس غاز لمده عشر دقائق حتى احمرت من شده الحرارة وتفحمت، و بدارستها تبين أن خلايا عظمه العصعص لهذه الأغنام الخمسة لم تتأثر بالإحراق وبقيت حيه.
صور لسبيمان وأكتشافه لدور الشريط الأولي في تخليق جميع أجهزة الجسم وحصوله لجائزة نوبل
ومع كل هذا فإن هناك قولاً آخر للدكتور احمد شوقي إبراهيم في مقال له نشرته جريدة اللواء الإسلامي مفاده أنه كطبيب لا يرى أن عظمة العصعص هي عجب الذنب أو حتى تحتوي على بقايا منه، فكل الجسد يبلى ويتحول إلى تراب ولا يتبقى منه إلا الذرات المكونة له، وهذه الذرات هي عجب الذنب وفقط.
عجب الذنب والمادة الوراثية
الحقيقة ومن الدراسات العلمية الحديثة كما أسلفنا نجد أنه من المنطقي أن بذرة الإنسان وهي عجب الذنب يجب أن تكون جزء حي محمي بحماية شديدة لا يؤثر فيه النار أو الضغط أو تغير الظروف المناخية المختلفة من برد قارص إلي حرارة عالية وغير ذلك.
كما انه من المنطقي أيضاً في ظل ما هو متوافر لدينا من معلومات عن كيفية نشؤ الحياة في كل الأجناس والكائنات الحية، أنه يجب أن يحتوي هذا الجزء المتبقي علي كتاب الحياة أو المادة الوراثية المخزن عليها كل المعلومات الخاصة بالكائن الحي مثل لون العينين ولون البشرة ونوع ولون الشعر، القلب والأقدام، الدم واللسان وكل ما يتعلق بالكائن الحي يجب بل يلزم أن نجد له معلومة مخزنة في هذا الكتاب والذي يعرف بالدنا "DNA".
ولا يجب أن يصاب المرء بالإحباط كما يشعر الدكتور عبد المنعم حين يرى أن الشريط الأولي يختفي بعد الأسبوع الثالث وبداية الأسبوع الرابع من تكون الجنين، ولا يجب أن ننفي وجود عجب الذنب بالمرة كما يقول الدكتور احمد شوقي إبراهيم في مقاله السابق الإشارة إليه، إذ لا يلزم أن يتبقى من الإنسان سوى خلية واحدة فقط حية، لا أكثر، خلية واحدة تحتوي على المادة الوراثية للكائن الحي تحوي جميع المعلومات والبيانات والأسرار عن هذا الكائن.
ولتصور مقدار الأسرار التي يحملها كتاب الحياة "DNA" نضرب لكم مثلاً بعملية الاستنساخ والتي أسفرت عن ظهور النعجة "دولي" ، في أبسط وصف لهذا الاستنساخ هو نقل كتاب حياة من خلية غير جنسية إلي خلية جنسية وأثمرت هذه العملية عن جنين أعطي هذه النعجة، ولكن ما أريد الإشارة إليه هنا هو أن النعجة الوليدة لم تبدأ حياتها ككل المخلوقات طفلاً ثم شاباً ثم شيخاً، بل بدأت حياتها من عمر كتاب الحياة للأم بدأت حياتها بعمر 6 سنوات، وما كان ذلك إلا لأن كتاب الحياة يخزن بين طيات صفحاته عمر الكائن الحي، وحالته، ومزاجه، وكل ما يعتريه من تغيرات وتقلبات حياتية.
ومنذ سنوات غير قليلة تقوم العديد من المعامل بزراعة الخلايا النباتية وتنميتها حتى تصبح نباتاً كاملاً ويباع في الأسواق كشتلات عالية الجودة، وهذا العلم يعرف بعلم زراعة الخلايا والأنسجة. كما أن زراعة الخلايا الحيوانية والبشرية دخل أيضاً حيذ التنفيذ في عديد من معامل الجامعات ومراكز البحوث ومراكز البحث والتطوير في شركات الأدوية والعلاجات الصيدلية الكبرى. إذن مسألة إنبات الخلية الحية لتصبح نسيجاً ليس شيئاً غريباً في المجتمع العلمي أو حتى علي مستوي القارئ الغير متخصص.
مواصفات خلايا عجب الذنب
يا ترى، أي نوع من الخلايا يمكن أن نطلق عليه "عجب الذنب"؟، وللإجابة على هذا السؤال، دعونا نعود مرة آخري إلي الحديث عن كتاب الحياة أو "DNA"، فمن أساسيات دراسة هذه المادة الوراثية يجب أن نعرف أنها تتكون من تتابع متسلسل من القواعد النتروجينية تعارف العلماء على أنها أربع قواعد نتروجينية يرمز لها عادة بالحروف الانجليزية ATCG عدد هذه القواعد في الجينوم البشري ما يقارب 3 مليار قاعدة نتروجينية، ومن العجيب أن هذه القواعد تتشابه في تتابعا بنسبة 99.9% في كل بني البشر ونسبة الاختلاف لا تزيد عن 0.1 % وهذه النسبة الضئيلة جداً هي التي تقسم عالم البشر إلى ابيض واسود وطويل وقصير ونحيف وسمين إلى ما لانهاية من الاختلافات الموجودة بين مليارات البشر بحيث لا تجد واحداً من هذه المليارات يتشابه تشابه كامل مع شخص آخر.
هذا علي المستوى العام وعلى مستوى الشخص الواحد أيضاً لا نجد اختلافاً يذكر في تركيب هذه المادة الوراثية في جميع خلايا الجسم، فكتاب الحياة الموجود في خلية الدم هو نفسه الموجود وبذات التركيب في خلايا العين أو القلب أو العضلات أو أي جزء آخر من أجزاء الجسم. ولكن وبحكمة من الله الخالق الذي ميز كتاب الحياة بصفحات كل صفحة فيه تسمى جين وكل جين أو مجموعة من الجينات تكون مسئولة عن تكوين وظيفة أو عضو معين. فنجد جينات تكوين الدم مثلاً موجودة علي كتاب حياة خلايا العين ولكنها متوقفة ولا تعمل في العين وتعمل في الدم فقط وهكذا بالنسبة لباقي أجزاء الجسم.
إذن فخلية عجب الذنب لا ينبغي أن تكون مثل هذه الخلايا، فلو كانت خلية دم لأنتجت دماً فقط، ولو كانت خلية جلد لأنتجت جلداً فقط، وهكذا، ولكنها خلية يجب أن تنمو لتعطي وتتمايز إلي كل أعضاء الجسم، بمعني آخر أن الصفحات المكونة لكتاب الحياة بهذه الخلية يجب أن تكون جميع جيناتها مفتوحة وغير مقفلة، وإلا ما أعطت أبداً كائناً كاملاً.
خلاصة القول أننا ومن هذه المقدمة البسيطة يمكن أن نقبل وبشكل منطقي أن يكون عجب الذنب ما هو إلا خلية واحدة فقط تبقي من الإنسان ولا تبلى ولكنها يجب أيضاً أن تكون خلية جذعيه تستطيع عند نموها وإنباتها أن تتمايز لتعطي كائناً كاملا.
الأمر الأخر هو كيف لهذه الخلية الحية أن تبقى أبد الدهر ولا تبلى، ولا تموت، ولكي يتحقق ذلك يجب أن تحتفظ هذه الخلايا بكتاب الحياة الخاص بها بدون أن يتحلل أو يموت، كما يجب وفي نفس الوقت أن تكون عملياتها الأيضية وتحولاتها الغذائية في أضيق الحدود إن لم يكن من الأفضل لها أن تنعدم.
وفي مجال تخصصي الخاص بالتكنولوجيا الحيوية الميكروبية نقوم عادة بحفظ الخلايا الميكروبية لعدة سنوات في أنبوبة وعلى درجة حرارة الغرفة وذلك بتجفيدها، والتجفيد هنا يعني نزع الماء منها تماماً وذلك باستخدام أجهزه مخصصة لذلك، ثم بعد أن تنشأ حاجة لإعادة إحياء هذه الخلايا نقوم فقط بإذابتها وإمدادها بالماء فتدب فيها الحياة مرة أخرى وتنمو وتتكاثر وتنتج كما كانت سابقا وبلا أدني مشكلة.
وعليه فإن هناك شيئاً ما يحدث عند موت الإنسان يمكن خلية عجب الذنب - التي أشار لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف - وبطريقة طبيعية من فقد المحتوى المائي لها بالكامل، مع لزوم أن تكون أيضاً محاطة بنوع ما صارم من الحماية والوقاية، هذه الحماية قد لا يوفرها جزء آخر من الجسم غير أحد العظام شديدة الصلابة والمرونة في نفس الوقت، بالإضافة إلي أن الغلاف الخلوي لهذه الخلية قد يكون فيه من المواصفات والخصائص ما قد يحوله عند انقطاع المدد الغذائي بموت الإنسان إلي كبسولة من نوع فريد لا يهلكها أقسي الظروف والنوائب والأعراض والحوادث ولو كانت في بطن الحوت، أو فوهة بركان.
وخلاصة القول أن الله سبحانه وتعالى أكد في غير آية من القرآن إننا سننبت من الأرض يوم البعث، ثم أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه إلى أن البذرة التي سننبت منها يوم القيامة هي جزء يتبقي من جسم الإنسان لا تأكله الأرض وهو عجب الذنب، واجتهد المفسرون القدامى – جزاهم الله عنا خير الجزاء - وقالوا أن هذا الجزء هو عظمة العصعص، ثم جاء من بعدهم من قال انه ليس كل عظمة العصعص ولكنه الشريط الأولي الذي يركب منه الإنسان عند خلقه جنيناً في بطن أمه، ثم جاء أيضاً من يقول أن هذا الشريط الأولي يختفي تماما بعد الأسبوع الثالث من تكون الجنين.
وهنا نقول انه يكفي فقط أن تبقى منه خلية واحدة فقط حية تحتوي على كتاب الحياة كل صفحاته مفتوحة أو مقرؤة، وأن هذه الخلية لها من الصفات والخصائص ما يمكنها من فقد مائها بمجرد موت لإنسان، وان الله قد يكون قد ألهمها أن تقوم أثناء موت الإنسان بمجموعة من الاحتياطات والدفاعات ما يمكنها من بقائها حية، ولا بأس من أن تكون أيضاً في حماية أحد عظام الجسم ولكن يجب أن تتميز هذه العظمة بالقوة والصلابة والمرونة في نفس الوقت حتى تستطيع أن تظل حية رغم الأهوال والعواصف، ويكفي أهوال يوم القيامة نفسه.
صفات الماء الذي ستنبت منه الأجساد يوم البعث
لم يحدد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صفات ومواصفات الماء الذي سينزله الله على الأرض ليحي به الموتى يوم البعث، حيث أن الحديث النبوي الشريف يقول: ما بين النفختين أربعون قال أربعون يوما قال أبيت قال أربعون شهرا قال أبيت قال أربعون سنة قال أبيت قال ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة.
والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن في هذه اللحظة هو: إذا كان الماء يساعد في إنبات الإنسان مرة آخري، فلماذا لا ينبت الموتى في القبور؟ والتي يسقط عليها سنوياً آلاف الأطنان من مياه الأمطار سنوياً، أو هؤلاء الذين ماتوا غرقاً في بحر أو نهر أو بئر أو غيره مما يغرق فيه، الحقيقة أننا لم نرى أو حتى نسمع عن أحد نما ونبت بعد غرقه أبداً منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وحتى الآن على الأقل.
هذا يعني وبمنتهي البساطة أن الماء الذي ينبت خلايا الإنسان مرة آخري لا بد وأن يكون له من الخصائص والصفات ما قد يكون مختلفاً بالكلية عن ماء الدنيا. وهنا يجب أن نعرف أن التوتر السطحي للماء العادي 73 داين/سم – الداين هو وحدة قياس القوة اللازمة لاختراق الماء لجسم الإنسان – والجسم يحتاج ماء بقوة شد سطحي 45 داين/سم حتى يخترق الماء جدره الخلوية.
ولذلك تقوم البروتينات الموجودة على جدر الخلايا الحية بعملية تخفيض هذا التوتر السطحي من 73 إلي 45 داين/سم وبالتالي تتم عملياتها الحيوية بسلاسة لا يلحظها الإنسان مطلقاً، وعليه فان الخلايا الميتة لا يمكنها أبداً أن تقوم بهذه العملية الحيوية وبالتالي فان وجود الخلية البشرية منقوعة في الماء لا يؤثر أبدا عليها ولا يحيها مطلقاً، لاستحالة دخول الماء إليها.
هذا ما أثبته الدكتور "اليكس كوريل" – الحاصل علي جائزة نوبل في ثلاثينيات القرن الماضي والذي أستطاع أن يحافظ على خلية من قلب دجاجة حية لمدة 37 سنة وأعلن بأن السر في ذلك يكمن في خفض التوتر السطحي للماء وبالتالي تسهيل عمليات الأيض بالخلية.
كما أن هناك أنواع أخري من المياه لها القدرة علي المحافظة علي خلايا بشرية حية لعدة أعوام، ولمعرفة هذا الماء المسمي "تريهالوز" دعونا نحكي القصة من أولها، فقد كان البروفيسور "جون كرو" من أوائل المتعلمين في المدرسة العليا بولاية كارولينا الشمالية بالولايات المتحدة الأمريكية وتخرج منها في عام 1961، وأثناء دراسته قام بتجفيف أحد أنواع العناكب الصغيرة المسماة بدببة الماء أو ما يطلق عليه بالانجليزية "Tardigrades". ودببة الماء هي كائنات حية بحجم رأس الدبوس يمكن تجفيفها وحفظها في سائل معلق مثل الفورمالين. ولم يكن يتخيل العالم "كروكان" أن هذه التجربة التي أجراها يوما ما بلا هدف ستقوده لاكتشافات هامه في المستقبل قد تنقذ حياة الملايين من البشر.
وبعد ما يقرب من عشرين عاما من تجفيف هذا المخلوق الصغير قام "كرو" بإخراجه من محبسه ووضعه علي شريحة ميكروسكوب زجاجية ووضع عليه نقطة ماء ثم تركه لفترة دقائق وبدأ يراه تحت الميكروسكوب، وفجأة سمعه تلاميذه يصرخ "يا رب إنها معجزة" إن العنكبوت يعود للحياة: إنه يتحرك". وأخذ "كرو" وتلاميذه التفكير، فماذا يكون هذا المخلوق الذي يقضي عليه لمدة عشرون عاماً في مادة سامه ثم يعود مرة أخري؟ ما السبب؟ هل تفعل نقطة ماء هذا السحر؟.
ولم يكذب العالم "كرو" خبراً وحول علي الفور كل أبحاثه ودراساته لكشف غموض الموت الخاضع لهذا العنكبوت وكيف استطاعت نقطة ماء أن تعيده للحياة مرة أخري. وتطورت أبحاثه لتشمل ليس فقط عناكب دببة البحر بل شملت أيضا نباتات مقاومة للجفاف جمعها من مناطق شديدة الجفاف في أفريقيا، نباتات قرون البحر، فطر الخميرة وغيرها.
ونظراً لكثرة العمل العلمي المطلوب إنجازه قام العالم "كرو" بتكوين فريق علمي يتكون من زوجته وزميله "لويس" المتخصص في الكيمياء الحيوية، بالإضافة إلي أستاذ العلوم البيطرية "فيرن تابلن". وأدت أبحاثهم لاكتشاف ماء خلوي سكري يسمي سكر التريهالوز "Threhalose" ووجد هذا الفريق أن هذا الماء الخلوي له قدرة كبيرة علي الحفاظ علي الخلايا بصورة جيدة لفترة طويلة.
وخصص معهد الثبات الحيوي "Bio-stabilization Institute" التابع لجامعة "كاليفورنيا ديفس" بالولايات المتحدة الأمريكية "لكرو" وزملائه - الذين بلغ عددهم ثلاثون متخصصا في العلوم البيولوجية المختلفة- مركزاً بحثيا مستقلا يبعد بمسافة 2 ميل عن حرم الجامعة، وجهزته الجامعة بأحدث الأجهزة العلمية اللازمة لإنجاز هذا النوع من البحوث. وركز الفريق العلمي أبحاثه علي إيجاد الطرق المثلي لحفظ وإعادة الحياة لثلاث أنواع من الخلايا وهي الصفائح الدموية وخلايا الدم الحمراء والخلايا النووية أو بمعني آخر نويات الخلايا مثل نويات خلايا الكبد أو الخلايا الجذعية الموجودة في نخاع العظام.
وحتى الآن نجح هذا الفريق فقط في تمديد فترة تخزين الصفائح الدموية اللازمة لتجلط الدم من خمسة أيام إلي سنتين. ويأمل الفريق في الوصول إلي طريقة لحفظ وإعادة نمو الخلايا الجذعية التي يمكن استخدامها يوما ما في إصلاح الأنسجة البشرية المتضررة. ومن المعروف أن طريقة التجفيف بالتجميد لها مخاطرها حيث يتحول الماء داخل الخلايا إلي بللورات ثلجية اثناء عملية التجميد تؤدي إلي تهتك جدر الخلايا عند إعادة ترطيبها بالماء مرة أخري، وشبه "كرو" هذه العملية بمن يريد أن يصنع بقرة من لحم الهامبورجر.
مما سبق يتضح أن الماء العادي لا يمكن أبداً أن ينبت الخلايا البشرية، ولكن يجب أن يكون ماءً ذا مواصفات خاصة، هذا الماء كما وصفه الرسول الكريم في حديثه عن يوم البعث والمذكور في مسند الإمام احمد حين قال صلى الله عليه وسلم: ثم يرسل الله أو ينزل الله قطراً كأنه الطل أو الظل (فسره العلماء بمني كمني الرجال) فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام.
إذن هو ماء يحتوي على مواد وعناصر غذائية تسهل عملية الإنبات واختراق الماء أيضا لخلايا عجب الذنب، هو ماء يحتوي علي مكونات الماء المنوي، بل يمكن أن نقول أيضاً أن هذا الماء هو ماء متخصص بمعنى أن لكل جسد من أجساد العباد - من لدن آدم عليه السلام وحتى أن يرث الله الأرض ومن عليها - مائه الخاص الذي سينبت منه يوم القيامة، هذا الماء ربما هو الماء الذي مات به وتبخر عنه وحفظه الله عز وجل له حتى حانت الساعة، ووجب القيام للحساب ثم الذهاب للأبد إما إلى الجنة خالداً فيها أو إلي النار خالدا فيها أبدا.